عزيزي القارئ ..رحل
عن حياتنا رجل صالح ذو سمعة طيبة، ومسيرةٍ عِلميّةٍ وَعَمليّةٍ مميزةٍ .. عاشقٌ لوطنهِ
ناصحٌ مخلصٌ بقلبٍ طيبٍ يُذكّرك بعبقِ أهل الكويت الأوائل من الزَّمن الجميل وكان أجمل
ما فيه أنه رغم علوِّ منزلته الاجتماعية والوظيفيّة يمتازُ بالتواضع وخفضِ الجناح،
ويبغض الكِبر والمُتكبرين وكان أبِيَّ النَّفس، صدرُهُ يضيق إذا رأى مشهداً فيه ظلمٌ
للغير، وقد تشرَّفتُ بمعرفتِهِ منذ أن كُنت صغيراً، حيث كانت تربطني علاقة أخوّة
وصداقة مع أبناء العائلة، ورأيت أنّ من الوفاء أنْ نُعرِّف هذا الجيل بعضاً من
سيرة أهل الكويت الطّيبين الذينَ جمعوا بين عبقِ الماضي وَروح الحاضر.
اسمه : أحمد بن صالح بن أحمد بن رشيد بن البداح، ويُلقب بأحمد الرشيد يرحمه الله، توفي عن عمر
يناهر 68 بعد فترةٍ من مكافحة المرض، لكنه كان صابراً محتسباً وَوارى جثمانه الثرى
30 -10-2024م، وحضر جنازته جمعٌ غفيرٌ لافتٌ للأنظار .. ولعلها من حسن الخاتمة .
الراحل من عائلة
: الرشيد البداح .. جاء جدهم أحمد الرشيد من
الزلفي إلى الكويت شأنهم كشأن الكثير من العوائل النّجدية، وقد عُرف الجد بتديّنه
(الحنبلي) والتزامه وقوّة شخصيته التي امتزجت
بالحدّة، مما جعل له هيبة على كل من عرفه، وقد عملتْ العائلة في تجارة الجلود .. حتى
وصلت إلى روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين.
صالح الرشيد والد الفقيد
وأما والد الراحل : فهو صالح بن أحمد الرشيد، سكن القبلة ثم حولي ثم الشامية .. كان تاجراً للأثاث والمفروشات ثم عمل في البلدية، وكان معروفاً بالزّهد والورع والحرص على الصلاة .. وقد كان في بيته العامر بالشامية مساحات وغُرف كبيرة وكثيرة لكنه آثَــرَ أن يكون أبناؤه وأحفادُه فيها .. وَسَكَن بغرفته البسيطة القريبة من "الحوش" حيث يهتم هو بالزراعة والعبادة .. وكان إذا حان الأذان تجدهُ لا يعرف أحداً فينطلق فوراً إلى المسجد بهندامٍ بسيط لا تميزهُ بهِ عن البسطاء، وكان ملتزماً بالسُّنة .. فثوبه فوق الكعبين، وهو ما يعزِّز أنَّ الرّاحل موضوع مقالِنا نشأ في أسرةٍ سلفيةٍ متدينةٍ بطبيعتها.
والدته : السيدة
الطيبة الحسيبة / شيخة بنت خليفه بورسلي -يرحمها
الله- فقد عُرفت بشخصيتها الاجتماعية ومحبتها للناس وتواضعها مع الجميع ممن عرفوها
في تلكم الفترة.
إخوانه: الكاتب
في جريدة القبس الأستاذ القدير/ بدر الرشيد .. ولديهِ ثلاث من الأخوات كبيرات
القدر وكريمات الحَسب، درسنَ حتى الجامعة، ثم بعد زواجهم - من أسرة بورسلي والعيسى
والمضاحكة - تفرغن لتربية عيالهن وتنشئتهنَّ النشأةَ الصالحة، وكانوا نِعمَ الأبناء ..
وفي نفس الوقت عملنَ في بعض الأعمال المناسبة .. التجاريّة وغيرها.
نشأته ودراسته : ترعرع أحمد الرشيد في منطقة الشامية، حيث درس في الشامية المتوسطة، ثم ثانوية كيفان، وبعدها سافر لأمريكا لدراسة إدارة الأعمال.
الوظائف التي عمل
بها: شركة البترول الوطنية ، وشركة الاتصالات المتنقلة، وشركة الاسماك الوطنية .. ومما
علمتُ من زملائِهِ بعد وفاته -يرحمه الله- أنهُ كان ذو سمعةٍ طيبةٍ وسيرةٍ حسنةٍ.
زواجه : تزوج من
السيدة أم صالح بنت عبدالله جاسم الفضالة، وهي عائلة معروفة يمتد تاريخها في جذور الكويت،
وكانت له رفيقة الدرب وشقيقة الروح .. تفرَّغت لأهـم دورٍ في حياة المرأة، ونالت أعظم
مقام، وهو الأمومة وتربية جيل صالح يخدم دينه ووطنه .. وهي -حفظها الله- كانت النصف
الآخر لطيبتهِ وحنوّهِ ومحبتهِ للآخرين .. وكأن هذه الشمائل هي ما عزَّزت العلاقة الزوجيّة
بينهما، وهكذا عندما يُحسن الرجل اختيار رفيقة دربه وأم أولاده.
مؤرخ الكويت العلامة عبد العزيز الرشيد
شخصيات تاريخية من عائلته : ولعائلة الرشيد البداح العديد من الشخصيات
الاعتباريّة، ولعلَّ من أبرز رموزها السالفين عمّهُ العّلامة الأديب والمؤرّخ ، وعضو
مجلس الشورى التَّأسيسي عبد العزيز الرشيد ..
في 1938 وتوفيَ في 1887 م.
وقد كتب الكاتب في الأنباء أ.مشعل السعيد عن العلّامة فقال
"في شبيبته رحل مشمراً عن ساعده في طلب العلم، فزارَ الأحساء والزّبير وبغداد
والمدينة المنوّرة .. وكان الشيخ عبدالعزيز مُحارباً شرساً للبِدع والخُرافات وَالجَهل،
فَنَجَحَ نَجاحاً كبيراً في ذلك، وكان خَطيباً مصقعاً وأديباً وشاعراً، وأسهَمَ في
إنشاء النّادي الأدبي والمكتبة الأهلية" انتهى.
ومن أهم ما أنتجهُ
العلّامة في مجال التاريخ والعلم: «تاريخ الكويت» و«مجلة الكويت» و«مجلة التوحيد» ورسالة: «تحذير المسلمين من اتباع غير سبيل المؤمنين»
و«تاريخ الكويت» و«رسالة الدلائل البينات في حكم تعليم اللغات» وهذه المؤلفات تدل
على أنَّ العلّامة كان فريدا ً في عصره جمع بين السَّلفية الدّينية والسّياسة والتّاريخ
والأدب والرؤية العصريّة، كما سافر إلى أندونيسيا في سنينهِ الأخيرة لنشر الإسلام
واستقرَّ في «جاوه»، وتوفيَ فيها -يرحمه الله-.
وعمُّهُ أيضاً النائب
محمد الرشيد : ولد في 1920 وتوفي 2010 م سياسي
مخضرم في مجلس الأمة الكويتي، وهو والد وزير الإعلام الأسبق أنس الرشيد ، والرّاحل كان عَلَماً
من أعلام العمل الوطني والبرلماني النّزيه .. انتخب في أول مجلس للأمة عام 1962م، وفي
مجلس 1971م و1975م و1981م و1985.
وفي مسيرته
السياسية كانت له مواقف شُجاعة في التّصدي للفساد والانحرافات، وكان -رحمه الله- رغم
حِـدَّته طيِّب المعشر، صادق الوفاء، صافِيَ القلب وطنيّ حتى النّخاع .. كما أنّهُ
كان تاجراً عصامياً عمل على تنميةِ تجارته بكلِّ أمانةٍ ونظافة.
& أبرز ما تعلّمت من
شخصيتهِ المميّزة ..
التدين والحرص على القيم .. فالراحل رغم انه خريج أمريكا في فترة الطفرة الاقتصادية بالكويت لم يرجع لبلده كما البعض فاقداً لهويته منقلباً على قيمه بل رجع إليها كما تربى هو ..على الدين والأخلاق والالتزام بالعادات الأصيلة .
البساطة والثقة بالنفس..
فهو غير متكلِّف لا في كلامه ولا لباسه وأتذكر رائحة عطره المفضل الذي عشقته بسببه ... وهو دهن الورد الطائفي فلم يكن مثلنا كشباب صغار مغرمين بالماركات .
التّواضع ورفض التكبر
.. حيث لا زلتُ أذكرً أنهُ في الوقت الذي اجتاحت البلد لوثةُ جاهليّة وطبقيّة أجّجها
بعضُ المفسدين كان -يرحمه الله- يرفضها بشدة .. ويرفض تقسيم المجتمع الكويتي، ويؤكِّد
على أهمّية تعزيز الوحدة الوطنية ومفاهيم العدالة والمساواة.
حرصُهُ على الجدّيّة ورفض الدّعة والحياة الناعمة .. كباقي الشباب كنت وأبناء أخواته نميلُ إلى ما يميل إليه الشباب في ذلك الوقت، لكن العم بوصالح ورغم أنه لم يكن كبيراً بالسن لكنهُ كان يملك من الحكمة الكثير ويحثنا على عدم اتّباع المظاهر، والحرص على الأمور النافعة، وكان يُشركنا معه لنطلع على كراج في البيت أعـدَّهُ لتصليح السيّارات وتطويرها، ووفَّـر فيه كل اللّوازم والأدوات.
عاطفة جياشة لأخواته وأبنائه .. أتذكر أنه اتَّصل بي في احد الأيام وبعد أن صار لي أنشطة في العمل الدّعوي والخيري ليطلب مني إشراك أحد أبنائه في بعض هذه الأنشطة، شعوراً منه بأهميّة مثل هذه الأنشطة للحفاظ على الابناء.
كما أذكر أنَّ إحدى أخواته وهي السيدة الفاضلة / فاطمة الرشيد -يرحمها الله- (وتُسمّى أم الخير) قد تضرَّرت سيّارتها المرسيدس أو أصبحت قديمة وغير مناسبة، فإذا بالأخ المُحب البار بأخواته يشتري لها سيارة بنفس الماركة ولكنّها حديثة من الوكالة.
السمعة الطيبة وحُسن
السيرة العملية .. بعد وفاة الرّاحل فوجئت بأنَّ عديلي -وهو يعمل في البترول منذ
عقدين أو أكثر- يقول: تصدق أن الموظفين والمسؤولين لا زالوا يذكرون الرّاحل ويثنونَ
عليه رغم أنهُ تركَ العمل من سنوات طويلة!
تشجيعهِ للشَّباب والاخذ بيهم .. فعندما رآني صغيراً، ثم شاباً، ثم كبيراً أُقـدِّم النّدوات الحقـوقيَّة كان
يشجعني ويَحضر مثل هذه الأنشطة .. ولقد تعزَّزت نفس الصورة في ذهني عنه وأنا أرى تغريدات من
بعض الشباب الكويتي في برنامج إكس وهم يثنون عليه بعد وفاته ويصفونه بالعم والأخ
الكبير الناصح.
وحتى لا نُصوِّر الرّاحل وكأنهُ يعيش حياةً عسكريةً جافة .. فلا بد أن نُؤكد أنهُ كانَ أَيضاً يُحب " الطلعات والكشتات" .. ورحلاتنا لشاليه الصّبية شاهدة، فكانَ لديهِ درّاجة ناريّة نوع " آر إم " أصفر يجول فيها في البر مع الأقرباء، وكنت أنا وعياله وأبناء أخواته نركب درّاجات الهوندا ذات الثلاث عجلات والخمسين "سيسي" وربما لا يفهم معاني هذه الأسماء إلّا من عاصر حقبتنا الجميلة.
رحم الله الرّاحل وجعلهُ بالفردوس الأعلى .. وبارك الله في ذريتهِ الطيبة، ورزقهم تلكم السيرة الطيبة والمسيرة العاطرة لوالدهم - يرحمه الله .
والحمد لله أولاً
وأخيراً
*****
المراجع من :
- - مشاهدات شخصية ومعلومات مباشرة
- - مجموعة من المواقع والصحف المطبوعات