الاثنين، 18 أبريل 2016

دموع ... الياسمين




فوق الجبل وعلى اطلالة ساحرة كانت  الطفلة  الصامتة   و اسمها  "الياسمين"  تسكن مع أخواتها اليتيمات  في دار السلام   حيث تعيش مجموعة  من الصغيرات - اللاتي فقدن  والديهم او تمر أسرهم بظروف معيشية صعبة -  في سكن للأطفال تتوفر  فيه بيت  ومدرسة صغيرة وساحة للألعاب   .

ومنذ ان جاءت تلك الطفلة   للدار لم تكن تتحدث ...حتى ظنتها مشرفات الدار بأن لديها إعاقة في النطق لكن الاستمارة التي وقعتها أسرتها الفقيرة  لم تذكر شيئا عن ذلك !

والياسمين  ليست  كباقي اليتيمات ...

حيث ان أباها قد توفي ولكن  أمها على قيد  الحياة ....

 ولديها  عم وحيد ولكن ظروف الأسرة تحت مستوى الفقر  ...  فالعم كبير  طاعن بالسن  والام وظيفتها  عاملة لخدمة الضيافة في احدى المؤسسات....

  وراتبها لا يغطي إلا  إيجار الغرفة  القديمة  وما  يفيض  لايكفي لقوت فرد واحد

ولا يمكن ان يوفر الرعاية  لطفلة في السابعة  وتحتاج  لملابس وطبابة وتعليم
وهذه الامور باهظة الثمن في تلكم الديار .

وفي مطلع كل شهر كان من عادة "محمود" موفد جمعية  الأمل ان يجول على الأيتام والاطفال الفقراء  الذين كفلتهم الجمعية في عدة دول ...

وهذه المرة  كانت من نصيب دار السلام

وفعلاً وصل"محمود" وكان رجلاً طيباً مولعاً بالأطفال بشكل أدهش رؤساءه في العمل  فجعلهم يختارونه لهذه المهمة !

وما إن وصل للدار إلا واستقبلته المديرة في مكتبها وبدأت تستعرض بإسهاب إنجازاتها ودورها في تطوير العمل   فقاطعها بسرعة  قائلا ً:

ياسيدتي ثقتنا فيكم  كبيرة  ولكن وقتي ضيق فأنا غداً مسافر ... فهلا أذنتي  لي  أن أتجول في الأرجاء بنفسي وإذا أردت شيئا سأتواصل مع طاقمكم الإشرافي ؟

فوراً ...كان جواب المديرة التي شعرت بالاحراج ....
 مؤكد يا أستاذ المكان تحت أمركم ...

ذهب  "محمود" الى سكن الاطفال واطلع على الأثاث والخدمات والمطبخ الداخلي
 فأعجب كثيراً بما رأى ...

ثم سأل احدى العاملات أين البنات فقالت  :
مجموعة منهم في المدرسة ....ومجموعة لديهم استراحة ويلعبون في الساحة...

فما كان منه إلا أن انتقل إلى المدرسة ...
حيث كانت معلمة التربية الإسلامية  تعلم الفتيات الصلاة وكن يلبسن أثواباً زاهيةً للصلاة 
 زادت نور وجوههم  ألقاً ...

فحمد الله 
على هذا المشهد الرائع وشكر المعلمة وسجل الملاحظة في دفتره الخاص ...

وبعد ذلك سار وبرفقته إحدى المشرفات  إلى ساحة الألعاب ....
وكان صوت ضحكات البنات يملأ المكان  ....

يركضن يمنا وشمالا ...ويتنقلن من أرجوحة إلى أخرى...

 يعيشون لحظات من الفرح....
 تنسيهم واقعها أليما من الحرمان عاشوا  فيه ردحاً من الزمن ...
ويخفف عنهم واقعهم الاجتماعي حيث لا أب ولا أم  ولا أقرباء !

ولأن محمود يحب الأطفال ...والاطفال يشعرون بمن يحبهم ....


اقتربت منه طفل  جميلة قائلة :

 ياعم  تعال والعب معنا لعبة الشرطي والحرامي ...

نحن نهرب وانت تلحق بنا ....
ومن تصطاده يكون يكون الدور عليه ليلحق بنا ونحن نهرب منه !

لم يتردد محمود ذو الأربعين عاماً ...

وبدأ يركض  بطريقة  " كوميدية  " أضحكت كل الاطفال

وجعلت المشرفة تبكي من شدة الضحك وهي تشاهد رجل في مثل عمره وهيبته
يركض مع الأطفال على طريقة "توم وجيري" 


وبينما هو يلهو  وقلبه تغمره السعادة  لما يرى من فراشات جميلة ....
تتراقص حوله ببراءة وجمال ...

لفت نظره فتاة منطوية على نفسها تجلس بعيدا على كرسي الاستراحة !

ناداها ...أنت ...
يابنيتي تعالي والعبي معنا ...فلم تنظر إليه ولم تحرك ساكنا ...

وبهدوء...
 خرج من الساحة وترك وراءه الفراشات مستمرورن في اللعب ...

ثم توجه للمشرفة
التي كانت متواجدة  معه  قائلاً ...
ما شأن هذه الفتاة ؟
لم هي هكذا وحدها وترفض الاندماج أو اللعب ؟

فقالت له:

 يا سيدي هذه الفتاة  اسمها "الياسمين"

لا نعرف سبب صمتها المستمر رغم اننا نوفر لها  كل شيء
ومنذ أن استلمناها من أمها  الفقيرة  ونحن نعتني بها ورغم أنها ممتازة في المدرسة وحسنة الأخلاق....

 إلا أنها لا تحدث أحداً  حتى أننا نظن  من ذوي الإعاقة في النطق !

استغرب "محمود " من كلام  المشرفة وقال لها :
 غير معقول لابد أن في الأمر سر خفي  ويجب أن نعرفه كي ننقذها من هذه الوحدة 

اقترب محمود من "الياسمين"

وقال لها كيف حالك يا بنتي ...هل تعلمين ان الياسمين اسم  جميل....
 وهو محبب الى قلبي لانه يذكرني بحديقة جدتي فهي تزرع الياسمين !

وكان الفتاة تنظر للأرض وشعرها الذهبي يغطي وجهها ولم ترد عليه ...

واستمر محمود يتابع حديثه وكأن  الطفلة صديقة له فقال لها :

هل تعلمين يا صديقتي  أنني حينما كنت صغيراً ...عشت في ملجأ للأيتام خمس سنوات منذ  أن كان عمري خمسة وحتى وصلت إلى عشرة سنين !

هنا ....رفعت الياسمين قليلا رأسها وكأنها تنصت له من طرف خفي  ...

فأكمل نعم .... لقد  مات والدي وكانت أمي مريضة جداً ....
وترقد في المستشفى لشهور طويلة ثم تخرج  وتعود مرة أخرى ...
  ولم يكن هناك من يرعاني فاضطرت أمي لإيداعي في  الملجأ خمس سنوات ....
حتى شفيت من مرضها تماما ...

ثم قال لها ...هل تريدين ان تعرفي شكل امي ..
فهزت  رأسها بنعم...

 فقال لها : امي لها شعر ذهبي  مثل شعرك وجميلة جدا مثل جمالك ...
حتى كانوا يصفونها بالقمر !

فجأة ...سمع محمود صوتا خافتا حزيناً  ...
لكنني لست جميلة .... لست جميلة !!
ونظرت إليه ودموعها تترقرق   ...
من عين واحدة ....

أما الأخرى فقد كانت مجرد دائرة فارغة لا يوجد فيها عين ...

فصدم  محمود مما رأى ...ولكنه تمالك نفسه ...

وقال لها لا تبكي يا صديقتي أنت أيضا جميلة ...

فردت عليه بسرعة  وقالت:
 الأ ترى انا ليس لي إلا عين واحدة والأخرى غير موجودة ...

 فحينما  كنت ألعب مع بنت الجيران ....
اصطدمت وأنا أجري بجذع شجرة ففقدت عيني !

شكلي قبيح ولا أحد يحبني لا أحد  يحبني !

 واستمرت تجهش بالبكاء  حتى قطعت نياط  قلبه !

فقال لها يا صديقتي "الياسمين " لا تحزني فالله لن يتخلى عنك....
 والناس كلهم يحبونك وأعدك أنني  سأساعدك لتعودي  كما كنت ...
فقالت  .. كيف  كيف ؟

قال لها أعطيني يومين فقط ...وسأتصل  بك من بلادى لأخبرك ...
هل اتفقنا ؟  

فقالت : نعم ..

قال لها : لكن بشرط ...

قالت :  ماهو 

قال : ان تعودي للعب ...
 والحديث مع الناس اذا وجدت لك الحل ...

قالت  ودون تردد : أعدك ...أعدك ...

وأجرى محمود  اتصاله فوراً برئيس الجمعية  شارحاً له حالة  الفتاة  نفسياً واجتماعيا ً
وتأثر  الرئيس جدا فقال له :

لقد خطرت لي فكرة أن نطلق مشروع العين الزجاجية لأجل الياسمين ومن في وضعها ...

فتكون عيون من زجاج "تجميلية " تجعل شكلهم  طبيعياً أمام  الناس....
 وتساعدهم  على التصالح مع  الذات والاندماج  مع المجتمع خاصة الأطفال منهم ..






فرح محمود ...جدا ...
وفي اليوم التالي ودع الياسمين  وباقي الفراشات ...وظلت الياسمين تقول له ..
لا تنساني لاتنساني ...

وهو يقول أبدا لن انساك وسأرجع  لك باذن الله ...

عاد محمود لدياره ...
 وحينما وصل للبيت قص على والدته  الحكاية كاملة  فانفطر قلبها لحال الطفلة ...
 ورفعت  يديها للسماء وقالت :

  أسأل الله أن يعينك  لتسعد الياسمين ...ولم تتم كلماتها ...
حتى اتصل رئيس الجمعية ليقول لمحمود أبشر ....

 بمجرد نزو ل الإعلان  الأول عن طريق "الفيس بوك"
وقبل أن ننشره رسمياً بالصحف والتلفاز ....

 اتصل بي احد المحسنين  وقال اريد ان اكون اول من يتبرع للمشروع ...
فقلت له حكاية الياسمين...

 فقال :  أنا كفيل بعمليتها ومصاريف سفرها وأمها للديار  لتقوم بالعملية...

لم يصدق محمد ماسمعه  وأصبح يصرخ ..يا الله ...يا الله ...ما أرحمك ...
و يقفز  كما الأطفال... ويحضن   أمه ....ويقبلها ...

ورئيس الجمعية على الخط يقول :
 ألو ألو ...محمود ...محمود ...ثم ابتسم وأقبل الخط ...

لم ينقضي الأسبوع  إلا والياسمين قد أجرت عمليتها ....
وارتسمت ابتسامة ساحرة على وجهها الوضيء....
 وهي تشاهد نفسها في المرآة بعينها الجديدة  ...

ولما رأى المحسن الكريم كيف تغيرت حياة الياسمين ....
 بعد ان اجرت  عملية  زرع العين الزجاجية ....

قرر ان يوفر للأم مصروفها ....
ومصروف الياسمين على ان تعود الياسمين لمنزلها ...
 لتكتمل سعادتها وتصبح الفرحة فرحتين ...

فرحة العين الزجاجية  وفرحة العودة لأحضان أمها....















ملاحظة : الاحداث السابقة قصة من وحي مشروع العين الزجاجية
 بقلم / أســــــامة راشــــــــد